الأصعب في ضروب الرياضة .. الجهد البدني ومعايير قياسه

 

( الجزء الأول )

د. باسل عبد المهدي*

يبدي متابعو السباقات الرياضيّة المهمّة في مختلف أنواع الرياضة ومنافساتها، يبدون دهشة واستغراب للجهود الهائلة التي يوظّفها المتنافسون من أجل الفوز أو احتلال موقع متقدّم وأحيانًا حتى من أجل إكمال مسافة السباق برغم ما يلاحظ عليهم من مظاهر الإعياء خلال المنافسة أو بعد انتهائها.  

إن مديات الإرهاق في بعض السباقات تتجاوز أحيانًا حدودًا تبدو غير معقولة في تصوّرات المشاهد الذي تثيره الرغبة، كما الفضول، في التعرّف على مكامِن توفير متطلّبات الجهود البدنيّة الخارقة ومديات استيعاب القدرة البدنيّة البشريّة وما يتوفر في خزائنها من احتياط!  

لذلك تنصرف جهود العاملين من الاخصائيين في ميدان البحث العلمي الرياضي وبذل مساعي جادة لاحتساب وتقدير ومقارنة هذه الجهود ومتطلّباتها في مختلف أنواع المنافسات.  

الأرقام والنسب والقياسات والمعايير أدناه استقاها واستخلصها الكاتب من نشرات ودراسات بعض معاهد البحث العلمي الرياضي باللغتين الإنكليزيّة والألمانيّة.. أمانة اقتضى التنويه.  

سباقات درّاجات الطريق

لقد أفرزت نتائج البحوث هذه بأن سباقات دراجات الطريق الدوليّة الكبيرة ( متعدّدة المراحل ) كطواف فرنسا أو إيطاليا ، تعدُّ الأصعب من ناحيتي الجهود المبذولة ومدّة استمرار المنافسة كما سيوضّح لاحقا!  

هذه النتائج أفرزتها معايير أساسيّة بدنيّة وفسلجيّة وظّفتها بحوث الأخصائيين في طريقة احتسابهم وقياسهم للجهود هذه… أهمّها ما يلي:

إن الطاقة الموظّفة في العمل البدني تُستحصل وتُحرّر بالدرجة الأساس من خلال كميّات الأوكسجين المُستهلكة في الخليّة الجسميّة للرياضي أثناء المنافسة.

إن الإنسان الاعتيادي غير المهيّأ رياضيًّا يمتلك سِعة استيعاب أوكسجيني يقدّر بـ ( 1,5 لتر ) في الدقيقة الواحدة، فيما يرتفع هذا المُعدّل إلى أكثر من ( 6 ليترات ) لدى متسابقي دراجات الطريق، أي أربعة أضعاف الإنسان الاعتيادي.

وحين يكون معلومًا بأن كُل ( 200 مليلتر ) من الأوكسجين المستهلك أثناء العمل البدني تحرّر سعرة حراريّة واحدة ( وهي الوحدة القياسيّة المستخدمة في احتساب كميّة الطاقة المستنفذة أثناء الجهد البدني ).

إذن ، يصبح معلومًا بأن الإنسان الاعتيادي غير المهيّأ رياضيًّا يمكنهُ تحرير ما بين ( 7-8 سعرة حراريّة في الدقيقة الواحدة) في حين يتمكّن الرياضيين المهيّأين بدنيًّا القدرة على استهلاك ما يتجاوز (الثلاثين منها في الدقيقة الواحدة) خلال الجهد الموظف فترة المنافسة.

حجم القلب ( غير المريض طبعًا ) يمثل معيارًا حاسمًا آخر في رفع قابليّة مواجهة متطلّبات الجهد البدني المستخدم أثناء المنافسة.

من المعلوم بأن حجم القلب عند الإنسان الاعتيادي يكون بسعة ( 750- 800 مليلتر ) في حين يمكن أن يصل حجم استيعاب قلب الرياضي المهيّأ بدنيًا إلى حدود ( 1,6 لترا ) . عمليًا فإن ذلك يعني، استطاعة هذا القلب أن يضخّ كميّات أكبر كثيرًا من الدم إلى أطراف الخليّة الجسميّة وتغذيتها للعمل مقارنة بما يضخّه قلب الإنسان الاعتيادي أثناء الجهد البدني.

توظيف واستهلاك السعرات الحراريّة  

من الأمور التي تم التعرّف عليها أيضًا هو أن توظيف واستهلاك ما يقدّر بـ ( 12 ألف سعرة حراريّة ) أثناء منافسة واحدة في يوم واحد، وهي الكميّة المقدّرة المطلوبة في إكمال قطع مرحلة واحدة من المراحل (الصعبة) في سباقات الطواف الكبيرة المعروفة يمكن أن تؤمِّن كالآتي:

– ( 8000 – 9000 سعرة حراريّة ) تستحصل من استهلاك المواد الغذائيّة المأخوذة قبل المنافسة وأثنائها التي تتجاوز أحيانًا ثمانية ساعات متواصلة.  

– (3000 – 4000 ) من السعرات الحرارية المتبقية المطلوبة ، يتم الحصول عليها من خزين المواد الغذائيّة في الخليّة الجسميّة للرياضي المتسابق، أي من مخزون مواد البروتين والدهون وكذلك احتياطي السُكّر ( أي الكاربوهيدرات ).

إن مستودع السُكّر لدى رياضي الإنجاز العالي يصل إلى حدود ( 5-6 غرام ) مقابل كُل 100 غرام من وزن الهيكل العضلي للفرد. في حين يبلغ، كما معلوم ، هذا المخزون السُكّري ( 1,5 غرام ) لدى من يمارس الرياضة لأغراض المُتعة أو لقضاء أوقات الفراغ.

وإذا ما انخفضت نسبة هذا المخزون السُكّري أثناء الجهد البدني إلى أقل من غرام واحد مقابل كُل 100 غرام من وزن الهيكل العضلي، ستظهر علائِم التعب ثم الإعياء.

الجهود البدنية وتوصيفاتها في المنافسات الرياضيّة:

استنادًا إلى مُجمل المعايير المذكورة نعرض في أدناه وصفا للضروب المتنوّعة من أنواع الرياضة والجهود البدنيّة التي تُبذل أثناء منافساتها انسجامًا مع متوجّباتها وبالترتيب:

سباقات درّجات الطريق الدوليّة الكبيرة ( الطواف ):

من أصعب المنافسات الرياضيّة كما أسلفنا. في بعض من مراحلها الجبليّة الصعبة، يتوجّب على الدرّاج المتسابق التسلّق والنزول مع دراجته لعدد من القمم تتراوح اختلاف ارتفاعاتها المتباينة بحدود (الكيلو متر) وبدرجات انحدار وصعود صعبة ممتدّة لعدد من الكيلومترات ولمدة تتجاوز ( 6- 8 ساعات) متواصلة لقطع مسافة ما يقارب (250 – 300كم) يستهلك الرياضي خلالها بحدود (12 ألف سعرة حراريّة)، كما أشير في أعلاه.

أمثال هذه الجهود والصعوبات تتكرّر عدّة مرّات أسبوعيًّا. ففي بعض السباقات الدوليّة الكبيرة كالطواف حول فرنسا أو أيطاليا ، يتوجّب على المتسابق خلال ثلاثة أسابيع أو أكثر بقليل قطع مسافة ما مجموعه ( 3500 – 4000كم ) موزّعة على عشرين مرحلة مُتباينة في مسافاتها وتضاريسها وخطورتها الجغرافية والمناخيّة.

تستقطب مثل هذه السباقات مشاركات دوليّة واسعة وفرص دعائيّة وتجاريّة لشركات ومنتوجات أوسع، لذلك تخصّص لها ميزانيّات تعادل ميزانيّات بعضًا من الدول. كما تقرّ وتصرف لها جوائز ومكافآت ماليّة متنوّعة وكبيرة للفائز في كُلّ مرحلة من المراحل العشرين أو في المجموع العام ويوصف بصاحب (القميص الاصفر) كذلك يتمُّ جمع نقاط ومستحقاتها من المكافآت لأحسن متسلّق ويرتدي (القميص المرقط) وكذلك نقاط ومكافآت للأسرع في نهايات كُل مرحلة ويرتدي ( القميص الأخضر ) والأكفأ درّاج من الشباب ( القميص الأبيض ) ومزايا كثيرة أخرى كتجاوز مواقع محدّدة بسرعة أثناء السباق تمنح لها نقاط ومكافآت. وهناك مكافآت محسوبة للدرّاج أو الفريق الأكثر مبادرة أو تضحية في سحب الآخرين أثناء المنافسة.. إلخ. ولأن مكافآتها الماليّة بهذا القدر الكبير فقد صاحب عدد من بطولاتها السنويّة فضائح استخدام المنشّطات المحظورة وكان الإعلام الرياضي يتابع الحملات الليليّة التي تقوم بها أجهزة الأمن لتفتيش غرف الفرق ومقتنياتهم في فنادق السكن بحثًا عن المحظورات!  

المراحل الجبليّة الصعبة

ومثلما أشير، فإن ما يستهلكهُ المتسابق في واحدة من المراحل الجبليّة الصعبة يصل إلى قرابة (12 ألف سعرة حراريّة) هذا الكم من السعرات يُماثل مثلاً ما يتطلّبه جُهد موظّف عامل بشكل اعتيادي في مكتب لمدة أسبوع بالكامل. أما اجتياز كُل المراحل العشرين للسباقات الكبيرة المذكورة فتتطلّب طاقة قدّرها الاختصاصيون بما لا تقلّ عن ( 170 ألف سعرة حرارية ) وهي الطاقة التي يحتاجها الموظّف في مكتب لمدة ( 80 يومًا ) في نمطِ حياةٍ خالٍ من التعقيدات.

ومن أجل الحصول على هذا القدر من الطاقة وهذه الكميّات من السعرات الحراريّة لمواجهة الجهود البدنيّة الكبيرة ، يلجأ المتسابقون إلى تناول كميّات إضافية من مواد الزُلال والنشويّات (ويفضّلون في الغالب المعكرونة ومشتقاتها مع وجبات الافطار الصباحيّة) كذلك قبل بدء التدريبات اليوميّة الاعتياديّة لقطع ما لا يقلّ عن ( 200-300 كم ).

أما أثناء ساعات المسابقة فيواصلون تناول قطع من الخبز الأبيض أو الفواكه المجففة كالتين والانجاص والمشمش أو التمر أو بعض الاقراص المشبّعة بمواد غنيّة. كما يحرصون على شرب كميّات كبيرة من السوائل الغنيّة بالسكريّات ( 6 – 10 لتر). ومهم أيضًا مواصلة شرب ما يطلق عليه (سوائل الالكتروليت) الغنيّة بمحتوياتها من مواد ( المغنيسيوم والصوديوم والكالسيوم ) التي تضطرب كميّاتها وتوازناتها في الخليّة الجسميّة نتيجة الجهود البدنيّة وتزايد كميّات إفراز وطرد العرق المتصبّب نتيجة ذلك إلى خارج الجسم، الحالة التي تستوجب تعويض كميّاتها ونسبها لضمان سلامة سير العمليّات الحيويّة في الخليّة الجسميّة.

(  يتبع ) 

* أكاديمي متخصِّص في ( السياسة الرياضيّة )
 
Print Friendly, PDF & Email
أنشر عبر

شاهد أيضاً

باريس تفتتح الأولمبياد بمسيرة نهريّة وإجراءات أمنيّة مشدَّدة!

  متابعة – فوزعدسة / قحطان سليم  احتفت العاصمة الفرنسيّة باريس أمس (الجمعة) بإيقاد شعلة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *