من الباشا إلى السوداني.. من ينتفض للصحافة؟!

 

إياد الصالحي
لا أحّد يكترث، حتى حُرّاس المهنة من جيل المُخضرمين الذين لم يُغادر بعضهم القنوات التلفازيّة المُضيّفة في خواتيم أحاديثهم إلا وغرزوا خناجر تشاؤمهم في خاصِرة (الصحافة الورقيّة) مُدّعين بأنها تحتضر في ظلّ سطوة التتبُّع الإلكتروني لجميع الأحداث الرياضيّة والسياسية والاقتصادية عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، مؤكّدين عزوف الجماهير عن قراءة الصُحف، وكأنهم يبدون الرأي القاطع بالإنابة عنهم! مُتناسين طيفاً واسعاً من المثقفين والمتخصّصين وحتى المُتطلّعين الجُدد مازالوا يجدون متعتهم في تصفح الجريدة وتوثيق نتائج أبحاثهم وإخضاعها للدراسات خاصّة أطاريح طلبة التعليم العالي.
الأكثر إيلامًا بتجاهل مصير الصحافة الورقيّة، أن نقابة الصحفيين العراقيين التي حضَّرَتْ واستذكرَتْ أواخر شهر حزيران الماضي كُل شيء لمناسبة العيد الوطني للصحافة العراقيّة 155 برعاية رئيس مجلس الوزراء المهندس محمد شياع السوداني بحضور رسمي لوزراء إعلام عرب وشخصيّات صحفيّة وإعلاميّة وثقافيّة من 50 دولة، لم تجد الحلول الناجعة والخطط اللازمة لإحياء دور (الصحافة الورقيّة) وإن جاء بمساندة الحكومة الراعية لهكذا نشاط تتنوَّع فيه مَجَاهِر النقد حول شؤون عدّة تصبُّ في مصلحة نهضة العراق وتُبصِّر المسؤولين بشأن تحقيقات مطلوبة لانتشال قطّاعات عدّة من قبضات الفاسدين والمتاجرين والمُخرّبين في ملفات مختلفة على صعيد الرياضة والاقتصاد والصحّة والتعليم وغيرها حيث سجّلت الصُحف مواقف مُشرّفة دفع بعض الزملاء حياتهم ثمناً لمواقفهم الوطنيّة عبر (عمود رأي) أو (تقرير استقصائي) لكشف كواليس هدر الأموال والاستدلال عن وثائق مزوّرة وأي خلل إداري في موقع ما مسكوت عنه!
إن الحُكم المُطلق بانتهاء زمن (الصحافة الورقيّة) غير جائز وغير منطقي، وكُل من يتشبّث به فهو واحد من اثنين إما يخاف خوض التجربة وسط تنافس مهني من وسائل مختلفة يُعجزه عن تحقيق هدفه من وراء تأسيس جريدته، أو فشل في إصدار سابق لم يدم طويلًا بسبب شحّة الأموال أو التهرُّب من دفع مستحقات العاملين معه لأنه لم يختر الراعي المالي بعناية واتخذ الصحيفة للتكسُّب ( كم نسخة يطبع وكم نسخة يبيع ) دون أن يأبه لمحتوى جريدته التي لم تجذب المُعلنين والمروّجين عن “المنتوجات” لعموم المجتمع، ولم يحقق التوازن في الانفاق على طباعة الجريدة ومكافآت ورواتب العاملين وما يرده من أموال عبر الإعلانات.
للتأريخ نثبّت هنا حقيقة غير قابلة للتدليس أو التأويل لمن أعطى ظهره للماضي القريب، أن “لعنة الاحتلال” الأمريكي للعراق بظاهِر (منح العراقيين حُرّيتهم المكبوتة) وبباطن (قهر الإنسان العراقي أبيّ النفس، والتمهيد للحرب الأهليّة) وهو ما جرى لاحقاً قد أحرقت الصحافة العراقية في فوضى لا مثيل لها في العالم!! حينما أقدَمَ أكثر من 150 رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير أغلبهم لا يحملون التعريف المهني الدارج، ولم يسبق لهم أن مارسوا العمل الصحفي، أقدموا على إصدار صُحف ومجلات ذات توجُّهات لم تجتمع على هدف تضميد نزيف الوطن، بل حوَّلَ بعض كُتابها أقلامهم إلى “سكاكين عمياء” تفتح الجروح القديمة في أعماق الطائفيّة والفتنة والثأر والحِقد.. تحت شعار “كلمتي حُرّيتي”!!
واستمرَّ الخراب الصحفي لسنين طويلة حتى آخر قطرات دماء العراقيين المغدورين بأسلحة التمييز العِرقي خلال عامي 2006 و2007، لتبدأ بعدها مرحلة الاختفاء التدريجي لعشرات الصُحف الدخيلة مع اصحابها وأجنداتها!! فيما استمرّت الصُحف المهنيّة المُغطّاة نفقات بعضها حكوميّاً أو تلك التي تعوّل على الإعلانات من وسائط شبه حكوميّة بالإصدار، ومعها الصُحف ذات التمويل الخاص التي تعاني فقدان التوازن بين متطلّبات الديمومة وتوفير استحقاق العاملين فيها وبين اضطراب العامل الاقتصادي في البلد وعدم نشوء علاقة وثيقة بينها وبين شركات وبنوك وطنيّة وعربيّة تفعِّل التخادم المشترك أسوة بما تشهده الصُحف القطريّة والإماراتيّة والكويتيّة وغيرها الأجنبية من البلدان المتطوّرة في قطّاع الإعلام.
أمتدَّت آثار “لعنة الإحتلال” إلى يومنا، من دون أن تنتبه لها نقابة الصحفيين ووزارة الثقافة والحكومات المتعاقبة، خاصّة أن وزارة الإعلام لم يعد لها وجود بعد زوال النظام في آذار عام 2003 وتم حلّها مع المؤسّسات الموسومة بـ (أذرع نظام صدام) برغم أنها (أي وزارة الإعلام) مسؤولة عن كُل ما له صلة بواجباتها وصلاحياتها الوطنّية والدوليّة وحتى الاجتماعية ضمن تخصّصها، في حين هناك وزارات مهمّة بثقلها المعروف تأريخيًّا مثل (الدفاع والداخليّة) حافظتا على تسميتهما وغيّرت الكوادر وبرامجها فقط وفقاً للنظام الجديد، ولم تعد لها علاقة بزمن ما قبل التغيير، فماذا حصل؟
أكثر من 30 ألف صحفي – على ذمّة ما يتناقله بعض الزملاء ولم تكشف النقابة رسميّاً عن العدد الكلي في أي مناسبة مضت – لا عمل لديهم سوى المرور يومًا واحدًا كُل عام لدفع رسوم تجديد البطاقة الصحفيّة، أو المشاركة في احتفالات النقابة بعيد الصحافة أو الإدلاء بأصواتهم الانتخابيّة لانبثاق مجلس إدارة جديد للنقابة حسب موعد كُل دورة، وبخلاف ذلك، فالجميع يعاني البطالة خاصّة الخرّيجين للسنوات الأخيرة، لم يجدوا العمل المناسب لتخصّصهم، ولاذوا بعيدًا لممارسة بعض المهن من أجل قوت يومهم!
أما عن توثيق الأحداث الرياضيّة والسياسية والاقتصادية وغيرها، فحدّث ولا حرج، إذ فقدَ العراق طوال السنوات الـ 21 فرصًا لا تعوّض لمشاريع أرشفة كبيرة تواكب ما وراء الأحداث وتدوّن شهادات مهمّة بسبب قلّة الصحف الصادرة وندرة الملاحق المتخصّصة إلا بعدد أصابع اليد الواحدة! مع غياب المنافسة المهنيّة التي أثرت على المزاج الصحفي وقيّدت طموحاته مقابل استفراد البرامج التلفازية المتعدّدة بشكل يومي بـ “الوضع السياسي والرياضي وغيرهما” ما أدّى إلى تكرار القضايا والضيوف واستغلال ساعة الحوار لمهاجمة الشخوص وتصعيد المهاترات هنا وهناك حول إدارة سياسة المؤسّسات حتى وصل حال العلاقة بين الإعلامي والمسؤول إلى القضاء والسجن نتيجة فقدان ثقة كُل طرف بالآخر!
من المؤسِف أن يتم اختزال العمل الصحفي في كروبات تطبيقات التواصل عبر الإنترنت في مجاميع إعلاميّة ورياضيّة تتبادل الآراء والأخبار والصور والمستندات وملفات صوتيّة ومرئيّة، وما على الصحفي المنضَمّ للكروبات سوى إلقاء النظرات الصباحيّة والمسائيّة عليها ليكون على تماسٍّ مباشرٍ مع بعض المتنفذين بالقرار الرياضي الذين يُمرِّرون ما يخدمهم إلى زملاء منسّقين متعاونين معهم يمثلون قنواتهم الوحيدة لاطلاعنا على مواقفهم وتصريحاتهم المؤثرة في القرار أحيانًا! والمُضحِك المبكي أن التأريخ سيكتب بعد عقود من الزمن أن الحدث الفلاني مُستقى من مصدر حصري في “واتساب” و”إكس” وفيسبوك”!
من المؤسف أن يتفرّج أهل الصحافة اليوم تحت وقع صدمة البطالة أو انتعاش البعض برواتب ومكافآت ومزايا ترفع جدار عزلتهم عن الآخرين الباحثين عن محاولة إنقاذ واحدة لتشكيل لجنة “دراسة وإنقاذ” تنقل نتائجها إلى الحكومة المتحمّسة لتنفيذ المشاريع المؤجّلة والجديدة طالما أنها تخدم المواطن العراقي.
الصحفيون خدموا جميع شرائح المجتمع ولم ينصفهم أحّد، فذاك قانون منح روّاد الرياضة مثلاً ، استكثرَ شمولهم بمواده طوال 11 عامًا برغم كونهم شُركاء الرياضة في المهام، ورفضهم حتى في مسودّة تعديل القانون مؤخرًا! ووصل الحال أن يتم التحضير لتمرير ميثاق الشرف الإعلامي بتأليف أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام وأحّدهم لم يصبر حتى يرى الميثاق النور وراح يتوعّد بالمُحاسبة والمحاكمة تحت ضغطه النفسي الذي أوقعهُ في الشقّ السلبي ليُعبّر عن دوافع كتابة الميثاق ومَن يقف وراء إعداده، ولماذا لم تكن هناك فكرة مُماثلة في قطّاعات ومؤسّسات خارج أسوار الرياضة؟!!
رحم الله أيّام “زوراء” باشا والشوّاف والزهاوي التي ظلّت نبراسًا لصحافة العراق في أزمنة المُفاخرة والمُباهاة والتميّز في مختلف العقود التي تلت عام التأسيس، وسيبقى تفاؤلنا في قوّة العراق الماليّة والبشريّة وتأريخه الصحفي العريق، وإذا كانت القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ لعقود طويلة، فآن الأوان أن تأخذ عاصمتنا الريادة في الثلاثة، وآن الأوان لرئيس الوزراء السوداني أن يقرأ وينتفض!

أنشر عبر

شاهد أيضاً

“الانتحار الفني” خيار كاساس!

  إياد الصالحي منتخبنا الوطني لكرة القدم في موقف حرج وخطير، والوصافة تقترب من الأردن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *