في بلداننا تنقرض وهناك تحوّل الى منتجعات للنقاهة!
د. باسل عبد المهدي*
ما كان معروفًا في بلادنا بالحمّام الشرقي أو ما اعتاد على تسميته في العالم بـ (الحمام التركي) يمثّل موضوعة هذه السطور، بعد أن كاد هذا النوع منها يختفي وينقرض في الكثير من بلداننا العربيّة، برغم ما هو معروف عن فوائدها الصحية والترويحيّة.
ما يهمّنا من هذا الكلام هو أن يتعرّف على الفوائد المذكورة ويستفد منها رياضيينا وفرقنا كوسيلة مهمّة من وسائل الشفاء واسترداد الراحة بعد خضوعهم الى الحمولات التدريبيّة الشديدة وإلى الضغوطات النفسيّة جرّاء مشاركاتهم في المنافسات وكثافتها في عالم الرياضة الحديثة.
عرفت أوروبا مثل هذه المرافق الصحية أثناء حُقبة احتلال الدولة العثمانيّة لمساحات ودول عدّة في القارّة العجوز ولسنين طوالًا، لذلك يُطلق عليها حتى اليوم بـ “الحمّام التركي”.
منذ ما يزيد عن قرون من الزمن كان تشييد واستخدام حمّامات البُخار الحار في بلدان شرق المتوسّط وما حولها وخصوصًا في المجتمعات المدنيّة منها، يمثّل امتدادًا لتقاليد وعادات لا تقف عند حدود فوائدها الصحية والجماليّة وإنما ارتبطت أيضًا بتقاليد اعتادت الناس على التقيّد بها في مناسبات اجتماعيّة عدة كالاعياد والاعراس وحفلات ختان الاطفال وما شابه.
الصحة من الماء
الزائر لمُدن وعواصم دول أوروبيّة كثيرة اليوم يلاحظ بأن دوائر بلديّاتها سعت الى استغلال وجود اطلال أو بقايا مثل هذه المرافق وحوّلتها الى مصحّات أشبه بالمتاحف عند زيارتها وإلى أماكن نقاهة وعلاجات طبيعيّة حقيقيّة ، يطلق عليها (SPA) وتعني بالعربية “الصحة من الماء”. أكثر من ذلك فإن تشييد الجديد منها تحوّل إلى صرعة ومصدر للاستثمار بسبب جاذبيّتها الصحيّة والنقاهيّة التي تحثُّ الناس على البذل والسياحة لمثل هذه الاغراض.
وعوضًا من أن تتواصل وتتعمّق في بلداننا مثل هذه النظرة نحو الفوائد العمليّة لحمّامات البُخار الحارّ ويوسّع انشائها وتطوير مرافقها، يُلاحظ بأنها بدأت بالتلاشي والتناقص الى حدود الانقراض بعد أن كانت تحتلّ مساحة في تقاليدنا وزاوية مناسبة داخل بيوتنا أو في أزقتنا. لقد رحنا كنتيجة لتأثير المظهريّة الفارغة والسلوك المُقلّد لكلّ ما هو مُصنّع أو مستخدم في الغرب نتسابق في استيراد صفائح الفورمايكا الجامدة لنحلها محل آواني الصفر النحاسيّة محليّة الصُنع، ثم نقتلع الحجر الطبيعي الذي تنبعث منه نسمات البُخار الحارّة ونستبدله بقطع السيراميك عديمة الاختراق ونستغني عن جوّ الدفئ المحمّل بالرطوبة المُعطّرة ليستبدل بالهواء الحارّ المُصنّع داخل غرف خشبيّة يُطلق عليها ” حمّامات السونا الفنلديّة ” ، ونشهد نهاية لمهنة المُدلّك الشعبي وأدواته البسيطة لنعوّضها باحواض “الجاكوزي” اليابانية.
اضطرابات بدنيّة ونفسيّة
سقنا كل هذا الكلام كتمهيد لعرض فوائد حمّامات البُخار بجوانبها الصحية والترويحيّة والجماليّة.
قبل استعراض تفاصيل ذلك، نرى أهميّة الإشارة إلى أن تأثيرات الايقاع والروتين اليومي في الحياة العمليّة الحديثة والتزاماتها وكذلك زخمها وتكرارها المتواصل يسبّب مع مرور الزمن اضطرابات بدنيّة ونفسيّة تُسلّط على الفرد. ولا يختلف عن ذلك الرياضيين المنخرطين في عمليّات تدريب بدني يومي متواصل. إن الحياة اليوميّة المعاصرة للفرد العامل في هذه المجتمعات (من غير الرياضيين) تتميّز في أغلب الاحوال على عدم القدرة على أخذ الكفاية المطلوبة من ساعات النوم، ثم ضُعف أو انعدام وجود الفسحة الملائمة للخروج إلى جو الطبيعة والتمتّع بهوائها العذب يصاحب ذلك فقرًا في النشاط البدني والرياضي لتعويض ساعات الجلوس الطويلة في المكتب أو أمام الآلة، إضافة الى إهمال التقيّد بالقواعد الصحية في المأكل والمشرب وفي انتقاء المفيد منها. إن توظيف القليل من كلّ ما هو صحي ومفيد لتأمين الراحة البدنيّة والنفسيّة للفرد صار السمة الغالبة لأسلوب الحياة اليوميّة المعاصرة. إن كثرة وتراكم المواعيد والالتزامات يؤجّج في الروح البشريّة نوعًا من حالات القلق أو النرفزة ويقود الى تصاعد حالات الاضطراب في التوازنات النفسيّة، وإن استمرّ الحال على هذا المنوال فسيصبح طبيعيًّا أن تنعكس الصورة على صاحبها مطالبة بتعويض ما تمّ اهماله من مستلزمات بدنيّة ونفسيّة أساسيّة.
ولا تختلف الأمور هذه وتأثيراتها لدى الرياضيين والمنضوين منهم خصوصًا في تدريبات وحمولات بدنيّة كبيرة تستوجب معالجات بدنيّة تعويضيّة ونفسيّة أيضًا نتيجة للضغوطات التي تسبّبها المشاركات في السباقات والمنافسات المكثّفة في البطولات المقامة.
أهم مظاهر التعب:
حين يبدأ لون البشرة بالتحوّل الى الصفرة الباهتة ويصاحب الفرد الشعور بالتعب وعدم الراحة، آنذاك يبدأ ناقوس الخطر بالقرع مطالبًا بوجوب ترتيب الحصول على وقت مستقطع والهروب من تأثيرات هذا الايقاع الروتيني المتكرّر والمدمّر.
إن أحسن وسيلة لمواجهة هذه الاتعاب والتغلّب على مظاهرها هو استخدام حمّامات البُخار الحار التي صارت بسبب ذلك أشبه بالملاذ الآمن لمن يفتّش أو إلى من يحتاج مزاياها المفيدة .. لماذا؟
إن تأثيرات البُخار الحار على البشرة وعلى عموم الخليّة الجسميّة مفيدة ومتعدّدة التأثيرات. فالتوافق المناسب بين حرارة الماء (٤٠-٤٥) درجة مئوية من جانب والرطوبة النسبيّة للهواء (٩٠-١٠٠) درجة يعمل على منع التشنّجات العضليّة ويخفّف من حدّة توتّرها. هذه الحرارة المُحمّلة بالرطوبة تساعد على منع حصول التشنّجات العضليّة وتخفّف من حدّة التوتّرات اجمالًا. أنها عامل مساعد يُسهم أيضًا على تخفيف حدّة الآلام المفاصل، كما يحمي وينقّي ويطهّر ويصون البشرة. فالبُخار النقيّ والرطب مُضاف الى ذلك الحرارة يُسهّلان زيادة مرونة الأنسجة ويؤمّنان انفتاح في المسامات الجلديّة بشكل يُسهّل معه تطهير وتشطيف جلد البشرة جذريًّا. فالبشرة بجلدتها الرخوة ومساماتها المفتوحة يمكن أن تستقبل وتتعامل بشكل مرن وفعّال مع كُلّ ما تتزوّد به من وسائل لتطهيرها وإزالة الحراشف عنها. إن مواصلة الفرد على استخدام حمّام البُخار الحار تؤمّن في حصيلتها بشرة ورديّة السطح وجلد صحي مشبّع بدماء نقيّة جديدة. هذا يعني استعادة لحيويّة كادت أن تنتهي. فالشحنات الإيجابيّة التي يحدثها استخدام حمّام البُخار تعطي البدن والنفس مؤثّرات تستغرق أيّامًا وتُمكِّن من إعادة الهدوء الى وضعهِ الطبيعي كنتيجة لارتخاء الاعصاب واسترجاع البدن راحته أو شفاءه المطلوب.
الالتزام بالتنفيذ
لهذا يتوجّب على رياضيينا وأجهزتهم التدريبيّة الالتفات إلى أهميّة الالتزام بتنفيذ ذلك واعتباره جزءًا مفيدًا ومتمّمًا لمُجمل العمليّة التدريبيّة والمشاركة في المنافسات، وهو أمر لازال متيسّر بسهولة وبين جدران أغلب منازلنا أو أحياء سكننا، مع ذلك اغفلته كثير من خُطط أجهزة التدريب وممارستها في عمليّات التحضير والإعداد وفي التأثيرات النفسيّة التي تُسلّط على الرياضي أو الفريق كنتيجة حتميّة لكثافة المشاركة في المنافسات. صدق من قال:
“العقل السليم في الجسم السليم”.. والله من وراء القصد.
* أكاديمي متخصِّص في ( السياسة الرياضيّة)